منوعات

فيروس كورونا: كيف جعل الوباء شوارع المدن “صديقة للدراجات”؟

ربما يشكل التنقل عبر أنحاء العاصمة الكولومبية بوغوتا، تجربة ذات وجهيْن متناقضيْن تماما، فشوارعها معروفة بأنها تشهد حركة المرور الأسوأ في العالم. لكن المدينة تنعم في الوقت نفسه، ببنية تحتية مُهيأة لركوب الدراجات الهوائية، بما يجعلها نموذجا مثاليا، لكيفية توفير الظروف الملائمة، لاستخدام وسائل النقل المستدام في المناطق الحضرية، وذلك كما ورد في “مؤشر كوبنهاغنيز”، الذي يُعنى بتصنيف مدن العالم، من حيث مدى كونها “صديقة لاستخدام الدراجات”.

أكثر من ذلك، انطلقت من العاصمة الكولومبية في سبعينيات القرن الماضي، حركة لتشجيع استخدام الدراجات، تحمل اسم “سيكلوفيا”، وتنتشر الآن في مختلف أنحاء العالم. وفي إطار هذه الحركة، ينخرط نحو مليون ونصف المليون شخص، صباح يوم الأحد من كل أسبوع، في التبديل على دواسات دراجاتهم، على طول شوارع خالية من السيارات، يصل طولها إلى 128 كيلومترا (80 ميلا).

لذلك عندما وصل الوباء إلى المدينة في منتصف مارس/آذار الماضي، وضعت عمدتها كلوديا لوبيز، وهي من بين عشاق ركوب الدراجات، إحدى أوائل الخطط التي شهدها العالم، لتشجيع اللجوء إلى هذه الوسيلة للتنقل. وبموجب هذه الخطة، استخدمت السلطات المحلية في بوغوتا، الأقماع المرورية، لتوفير حارات مؤقتة لسير الدراجين، بطول 76 كيلومترا.

وربما كان اللجوء إلى هذه الوسيلة، أمرا يسيرا على سكان العاصمة الكولومبية، بحكم وجود “ثقافة ركوب الدراجات الهوائية” لديهم من قبل، بفضل حركة “سيكلوفيا”. ويتبنى هذا الرأي، كارلوس باردو، أحد سكان بوغوتا المتحمسين لاستخدام الدراجات، وهو كذلك مستشار بارز لجمعية تشجع اللجوء إلى وسائل جديدة للتنقل بواسطتها في المناطق الحضرية.

وفي الأسابيع الأولى لتفشي الوباء، أقام باردو شراكة مع إحدى الشركات الكولومبية العاملة في مجال توفير الدراجات للراغبين في استخدامها، وذلك بهدف تخصيص 400 دراجة، تتحرك بالكهرباء والتبديل على الدواسات معا، للعاملين في قطاع الصحة مجانا.

أما الآن، فينهمك هذا الرجل في إقناع سكان بوغوتا، بضرورة أن تصبح الحارات المؤقتة التي استحدثتها السلطات للدراجين في الشوارع، ملمحا ثابتا من ملامح مدينتهم.

رغم أن بوغوتا تُعرف بأنها من أسوأ مدن العالم من حيث التكدس المروري، فإن البنية التحتية الملائمة لركوب الدراجات في شوارعها، تصنف بأنها نموذج مثالي لكيفية تهيئة الأجواء لاستخدام وسائل نقل مستدامة في المناطق الحضرية

ويسرد باردو جانبا من النقاشات التي تدور بينه وبين بعض السكان في هذا الصدد قائلا: “بعض السائقين يقولون لنا `لقد أخذتم حارة المرور الخاصة بنا`، لكننا نقول لهم، إننا أخذنا حارة واحدة من تلك المخصصة للسيارات، واستحدثنا حارة ثنائية الاتجاه للدراجات. وهو ما يعني أننا زدنا فاعلية استخدام المساحة المتاحة لنا بواقع الضعف، وزدنا كذلك عدد من يتنقلون” في هذه الشوارع.

وبفضل جهود هذا الرجل، التي تزامنت مع إجراءات سريعة اتخذتها السلطات المسؤولة عن النقل في العاصمة الكولومبية على هذا الصعيد، أصبح طول الحارات الجديدة المخصصة للدراجات في المدينة 84 كيلومترا، يعتزم المسؤولون المحليون على الإبقاء على 65 كيلومترا منها. وفي الوقت الراهن، أصبح إجمالي طول شبكة مسارات ركوب الدراجات في بوغوتا 634 كيلومترا.

وعلى أي حال، يشهد استخدام الدراجات كوسيلة للتنقل طفرة في مختلف أنحاء العالم حاليا، وذلك في ظل تجنب سكان المناطق الحضرية وسائل النقل العام، وإيثارهم الأمان النسبي، الذي توفره لهم هذه الوسيلة من الوجهة الصحية، في غمار تفشي الوباء.

وفي الفترة الحالية، يتعاون عدد من أنصار التنقل على متن الدراجات، مثل باردو، مع حكومات دول العالم المختلفة، أملا في أن تتحول الإجراءات التي تم اتخاذها لتشجيع اللجوء إلى هذه الوسيلة كرد فعل على الوباء، إلى تدابير دائمة، خاصة وأن مثل هذه الخطوات أصبحت أكثر وجاهة من ذي قبل، بعد أن وفر فرض نظام الإغلاق العام في الكثير من البُلدان، فرصة غير مسبوقة، للتعجيل بإجراء تجارب على البنى التحتية في مدنها.

وقد لا تقتصر نتائج هذه التجارب، على إحداث تغيير جذري على الطريقة التي نتنقل بها بين أنحاء المناطق الحضرية في شتى أنحاء المعمورة، بل ربما تجعل تلك البقاع أكثر مرونة وقدرة على التعامل، مع أي صدمات مستقبلية.

ويقودنا ذلك لإلقاء الضوء على الجهود البحثية التي تعكف عليها تابيثا كومس، المحاضرة في جامعة نورث كارولينا فرع مدينة تشابل هيل، والتي تشمل جمعها للبيانات المتعلقة بالإجراءات التي اتخذتها السلطات المحلية خلال فترة الوباء، وأثرت على أنشطة مثل المشي وركوب الدراجات.

وقد كشفت جهود كومس عن أن ما لا يقل عن 365 مدينة على مستوى العالم، خصصت مساحات إضافية في الشوارع لأنشطة من هذا القبيل، وذلك منذ بدء جمعها للبيانات في 24 مارس/آذار الماضي.

وتتذكر كومس قرارها بتوثيق هذا التوجه العالمي صوب ركوب الدراجات بالقول: “شكّل هذا بوضوح، ظاهرة شهدتها دول في مختلف أنحاء الأرض، وبشكل متزامن تقريبا. كان الأمر أشبه بموجة دماغية عالمية متزامنة”.

وبينما استحدثت بعض المدن حارات للدراجات، تم تخصيصها في الشوارع على عجل، طبقت مدن أخرى خططا يتم فيها إبطاء السرعة في عدد من الطرق، من خلال وضع حواجز مؤقتة، وتقليل السرعة المسموح للسيارات بالسير بها فيها. ومن شأن ذلك تمكين المشاة والدراجين، من أن يتشاطروا هذه الطرق بأمان مع السيارات.

ويعود الفضل إلى مدينة أوكلاند بولاية كاليفورنيا الأمريكية، في إطلاق التوجه الخاص بإبطاء حركة السير في الشوارع، وهو ما حدث في إبريل/نيسان الماضي، قبل أن يُطبق في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. وبلغ طول المسارات التي خُصِصَت لسير الدراجات في هذا البلد 74 ميلا (119 كيلومترا)، ما يصل إلى 10 في المئة من إجمالي الطرق هناك.

أما في أوروبا، فقد عجلّت السلطات المحلية في فرنسا، بالخطوات الخاصة بوضع وتنفيذ خطة لتخصيص مسارات بطول 650 كيلومترا لسير الدراجات سواء بصورة مؤقتة أو دائمة. وقد شهدت إيطاليا خطة مماثلة، تم فيها تخصيص نحو 150 كيلومترا لاستخدام وسيلة التنقل هذه.

لكن الأمر لم يخل من انتقادات. ففي سبتمبر/أيلول الماضي، اضطرت السلطات المحلية في العاصمة الألمانية برلين، إلى إلغاء ثماني حارات للدراجات كانت قد استحدثتها على عجل، وذلك بعدما أصدرت إحدى المحاكم قرارا، يقضي بأن مسؤولي المدينة لم يقدموا ما يكفي من أدلة، تثبت أن الشوارع التي استُقْطِعَت منها هذه المسارات، كانت تشكل في صورتها الأصلية خطرا على راكبي الدراجات.

ولم تختلف الصورة كثيرا في نيويورك، التي كافحت سلطاتها لتطبيق خططها الخاصة، بتخصيص مسارات لمرور الدراجات، إذ اعتمدت إما على بعض السكان أو على عناصر أجهزة إنفاذ القانون، لضبط الأمور الخاصة بهذه الحارات المرورية الجديدة، التي لم تحظ بالترحيب. وترى تابيثا كومس أن الاضطرار للجوء إلى أساليب مثل هذه، لتنفيذ أي خطة يعني “أنها لن تنجح على الأرجح، وأنها إذا نجحت فستكون غير منصفة”.

ولا تقتصر المشكلات التي تكتنف التوجه نحو تشجيع ركوب الدراجات على ذلك، إذ تشير ساندرا كاباليرو الخبيرة المتخصصة في شؤون التنقل بالمناطق الحضرية في المنتدى الاقتصادي العالمي، إلى مشكلة أخرى، تقول إنها قائمة منذ أمد بعيد، وتتمثل في أن إقامة مشروعات لتأهيل البنى التحتية اللازمة، لاستخدام الدراجة الهوائية في المدن المختلفة، غالبا ما يتركز في المناطق التي تشهد طفرات اقتصادية فيها.

وتقول إن ذلك يعني أن “الأحياء والتجمعات السكانية، التي لا تشهد طفرات مثل هذه، لا تستفيد (من دعوات الترويج لاستخدام الدراجات). لذا نرى أن هذا التوجه، ينتشر على نحو غير متساوٍ أو متكافئ، وهذه مشكلة رئيسية”.

وقد تعاونت كاباليرو مع السلطات المحلية في أوكلاند، لتطبيق برنامج إبطاء السرعة في شوارع المدينة، بما يشمله ذلك من وضع للافتات وتجميع للبيانات، وكذلك إبلاغ سكان المنازل القاطنين على جوانب هذه الطرق بشأن تلك العملية، فضلا عن تعزيز فرص الحصول على ردود فعل عليها. وترى كاباليرو أن البرنامج الذي لا يزال مطبقا، قد كُلِل بالنجاح، وذلك لأن القائمين عليه توخوا مصالح جميع الأطراف.

وقد لعبت البنى التحتية التي وُفِرَت مؤخرا لتسهيل استخدام الدراجات، دورا حيويا على صعيد تشجيع التنقل بواسطتها، لا سيما وأن ذلك يساعد على الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي المتبعة في ظل وباء كورونا.

المعروف أن الأسابيع الأولى لتفشي هذا الوباء، شهدت ارتفاعا لمبيعات الدراجات بالتجزئة في الولايات المتحدة بنسبة 75 في المئة، وفي بريطانيا بنسبة 63 في المئة. ويبدو (كوفيد – 19) عاملا رئيسيا في حدوث هذه الطفرة، رغم أن المتحمسين لركوب الدراجات في كلا البلدين، طالما سعوا لتشجيع ذلك، نظرا لفوائده على صعيد تحسين الصحة العامة وتقليل التكدس المروري، خاصة وأن جانبا كبيرا من الرحلات الداخلية، التي تشهدها الولايات المتحدة وانجلترا لا تزيد مسافاتها على خمسة أميال، وذلك بنسبة 54 في المئة و68 في المئة على الترتيب.

ففي ظل الوباء، أصبح إقناع سكان المناطق الحضرية بركوب الدراجات، أمرا أكثر سهولة. وأصبح السؤال الآن، يتمثل في الكيفية التي سيتسنى من خلالها لمدن العالم المختلفة، الإبقاء على التدابير التي اتخذتها للتشجيع على استخدام هذه الوسيلة، بعد أن تنتهي الأزمة الحالية، لا سيما وأن الحماسة لذلك قد تراجعت بالفعل في المملكة المتحدة، التي أصبح اهتمام مواطنيها باستخدام سيارة أو اقتنائها، يزيد الآن على أي وقت مضى، وفقا لتقرير أعدته شركة لخدمات السيارات هناك.

ويرى هاري باربافسيس مدير مختبر التدريبات وعلم النفس الصحي بجامعة ويسترن الكندية، أن ذلك الاهتمام يعود إلى ثلاثة عوامل رئيسية: الكفاءة والأمان والتكلفة، وهي اعتبارات ربما تتفوق فيها السيارات على الدراجات.

ولذا تحتاج السلطات المسؤولة عن النقل في مدن العالم المختلفة، إلى سد الثغرات التي تشوب برامجها لتشجيع استخدام الدراجات، وضمان أن بنيتها التحتية في هذا المجال، تحظى بصيانة جيدة، حتى في ظل الأحوال الجوية السيئة. كما أن هذه السلطات بحاجة إلى إبراز مدى فاعلية استخدام الدراجة بالقياس إلى تكلفتها، التي قد لا تتجاوز سُدس التكلفة، التي يتكبدها المرء إذا تنقل على متن سيارة.

ويضيف باربافسيس أن هناك خطوات بسيطة يمكن اتخاذها لتحفيز ركوب الدراجات، ومن بينها منح إعفاءات ضريبية لمن يقررون القيام بذلك، أو تخفيض أقساط مدفوعات الرعاية الطبية المستحقة عليهم، أو تقديم مميزات للموظفين الذين يستخدمون الدراجة في الذهاب إلى العمل.

ويعتبر هذا الرجل أن استراتيجيات مثل هذه، تقود إلى حدوث تغير حقيقي في السلوك، نظرا لأنها توفر أشياء مادية ملموسة “تكفل تذكيرك بأن المجتمع يبدي تقديره لك وأنت تستخدم الدراجة بانتظام، بل ويكافئك على قرارك في هذا الشأن أيضا”.

ويأمل باربافسيس، بوصفه عالما في السلوك، في ألا يبدو 2020 في المستقبل، مجرد لحظة عابرة شهدت قفزة كبيرة في التنقل على متن الدراجات، بفعل مخاوف من استخدام وسائل النقل العام، ثم عادت الأمور بعد ذلك إلى ما كانت عليه. ويقول: “سيكون ذلك محزنا بحق. وسيعني أننا لم نغتنم فرصة ما كان بوسعنا فعله، لتشجيع وإقناع من استخدموا الدراجات خلال الفترة الماضية، بمواصلة القيام بذلك”.

على أي حال، ثمة مؤشرات على أن حكومات دول العالم تعمل بفعالية على اغتنام الوضع الراهن. فالبعض منها يطرح برامج تجريبية، كان يمكن أن تتطلب في الأحوال العادية، عشر سنوات من التخطيط البطيء والدقيق، للانتقال من مرحلة الفكرة إلى مستوى التنفيذ.

وتقول تابيثا كومس في هذا السياق: “حاولت مدن العالم في غمار أزمة الوباء، تقليص هذه العملية إلى بضعة شهور أو حتى عدة أسابيع في بعض الأماكن. ومن العسير عليّ توضيح كم يبدو ذلك ثوريا، في مجال التخطيط الخاص بأنشطة التنقل ووسائل النقل”.

وهكذا أصبح لدى السلطات المسؤولة عن النقل في مدن العالم الآن، القدرة على التعرف على تأثيرات البرامج التجريبية التي تم تطبيقها بسبب الوباء، وتقييم هذا الأثر كذلك، ومن ثم الاستعانة بالمعلومات المستمدة من ذلك، لوضع إرشادات جديدة تحكم الإجراءات الخاصة بتخطيط الشوارع وحركة المرور خلال السنوات المقبلة.

ومن شأن ذلك، تذليل عقبة كبيرة طالما واجهت حملات تشجيع اللجوء إلى ركوب الدراجات، أو تخصيص حارات لها في الشوارع على نطاق واسع، أو تفعيل خطط إبطاء حركة السير في الطرقات. وتمثلت تلك العقبة في الإشارة إلى عدم وجود سوابق أو معايير متعارف عليها بشأن تطبيق إجراءات مثل هذه.

وفي النهاية، ترى كومس أن ما “سنستخلصه مما يحدث في الوقت الحاضر، وسيبقى لدينا بشكل دائم، هو معرفة وفهم كيف يمكن أن نغير الطريقة التي نضع بها خططنا، لاستيعاب المشاة وراكبي الدراجات في شوارعنا”.

فحتى الآن، يتمحور التفكير في هذا الشأن، حول كيفية استيعاب السيارات أولا، وتسهيل حركة المارة والدراجين بعد ذلك، حيثما أمكن. أما التجربة الحالية، فستدفع الكثير من المدن، كما تقول كومس، إلى أن تتراجع عن هذا النهج، وأن تفكر في أنه ربما لا ينبغي علينا أن نعطي السيارة الأولوية القصوى بالضرورة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى